غزة- شهادة وفاة الإنسانية وصمتٌ مدوٍّ للعالم.

المؤلف: نبيل البكيري08.21.2025
غزة- شهادة وفاة الإنسانية وصمتٌ مدوٍّ للعالم.

منذ ما يقارب العامين، وغزة ترزح تحت وطأة الدمار الشامل، حيث يسقط الأطفال والنساء والشيوخ ضحايا لعمليات قصف وحشية تتجاوز حدود الإنسانية، في مشهد إجرامي مأساوي يثير الرعب والقهر، ويحدث كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

لقد كشف المشهد المروع في غزة عن حقيقة مزيفة لكثيرين ممن طالما تغنوا بمفاهيم التمدن، والتحضر، والقيم الإنسانية النبيلة، والحداثة السياسية، وحقوق الإنسان، بل وامتد هذا الانكشاف ليشمل حتى المقربين من ذوي الدين الواحد، والعقيدة السمحة، والدم المشترك، والنسب الواحد.

إن فاجعة غزة اليوم عظيمة وجليلة، تتجاوز بكثير حدود جغرافيتها الضيقة، وتمتد آثارها لتشمل أرجاء المعمورة كافة، هذه الفاجعة بمثابة نعي مدو لكل ما تبقى من قيم إنسانية نبيلة في هذا الزمن البائس، حيث تسود الظلمة، وتتلاشى المبادئ، وتتهاوى القيم، وفي صميم ذلك، يتم دفن الحضارة، وتعود الهمجية والوحشية بأقبح صورها وأشنع أفعالها.

لا يوجد مبرر أو تفسير لما يحدث في غزة اليوم، سوى أن الانحدار الأخلاقي قد بلغ أشده، وأن خللاً عميقًا قد أصاب الضمير الإنساني، فلا يمكن تبرير هذا الصمت المطبق إزاء عمليات الإبادة الجماعية الممنهجة والمعدة سلفًا، إلا بوجود تواطؤ مقصود، ورضا ضمني عما ترتكبه آلة القتل التي يقودها نتنياهو وعصابته الصهيونية المتطرفة. هذا التواطؤ لن يمر مرور الكرام، وسيعيد البشرية قرونًا إلى الوراء، متجاوزًا كل ما تحقق من تقدم وتحضر ورقي إنساني.

لسنا هنا في صدد المباهاة بحشد كل الكلمات البليغة لوصف ما يجري، فالأفعال فاقت كل تصور وفوق قدرة العقل البشري على استيعاب حجم الجريمة، فالأمر يتجاوز الوصف، ولا يمكن تفسيره إلا بالسقوط المدوي لكل مكتسبات الإنسان في سلم التقدم والرقي الأخلاقي، والعودة إلى عصور الظلام والجهل.

قد يعجز البعض عن فهم هذا الانحدار اللاإنساني، لكن من يمعن النظر في ساحة الأحداث، سيدرك تمامًا أن ما يحدث في غزة اليوم ليس سوى الحقيقة المرة التي طالما حاول الغرب وأدواته إخفاءها وتزييفها عن أعيننا.

لهذا السبب، بدأت أصوات غربية ترتفع معبرة عن رفضها القاطع لما يحدث، ومستنكرة بشاعة الجريمة التي فاقت كل التصورات، فالمفكر الفرنسي ديدييه فاسين، والأستاذ في كوليج دو فرانس المرموقة، لم يتمالك نفسه أمام هول الأحداث، فأصدر كتابًا بعنوان "هزيمة غربية"، وصف فيه ما يحدث في غزة بأنه "أعمق هاوية أخلاقية سقط فيها العالم الغربي منذ الحرب العالمية الثانية".

وأشار إلى أن الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل وسط تدمير غزة واستهداف المدنيين الأبرياء، يعكس ازدواجية معايير مفضوحة وتواطؤًا أخلاقيًا مشينًا، منتقدًا الصمت الغربي المطبق إزاء قتل الأطفال الأبرياء، وتدمير المستشفيات والمدارس.

وبدوره، تحدث مواطنه الفرنسي باسكال بونيفاس، الخبير في الشؤون الجيوسياسية، في كتابه "رخصة للقتل: غزة بين الإبادة الجماعية والإنكار والهاسبارا"، عن تورط الغرب في التستر على الأحداث، مؤكدًا أن من ينكرون وقوع الإبادة "لا يريدون أن يعلموا الحقيقة المرة".

صحيح أن هناك العديد من الأصوات الحرة التي أدانت هذه الحرب العدوانية، ووصفتها بالإبادة الجماعية، بدءًا من سلافوي جيجك وصولًا إلى نعوم تشومسكي، مرورًا بعدد كبير من الفلاسفة والنشطاء الغربيين، إلا أن هذه الأصوات الشجاعة لم تغير من حقيقة التوجه الغربي الرسمي شيئًا إزاء ما يتعرض له أكثر من مليوني إنسان محاصر بالقتل والجوع في غزة، فما زال هناك صمت قاتل لا يقل إجرامًا عن سلاح القتل الذي ترتكبه دولة الاحتلال الصهيوني، بل ربما يكون هو سلاح الجريمة الأشد فتكًا بأهالي غزة.

ولكن دعونا من الغرب ونخبه ودوله وقياداته، فقد وصلوا إلى مرحلة من الانكشاف لا يمكن سترها أو إخفاءها، وهذا أمر مفهوم في إطار المعادلة الكولونيالية التي تحكم العالم، والتي يعيد الغرب تذكيرنا بها مرارًا وتكرارًا حتى لا ننساها أو نغفلها، وهي أن هذه البقعة الجغرافية بكل مشاكلها وتعقيداتها هي من صنع الغرب بامتياز.

السؤال الذي يلح في البحث عن إجابة شافية هو: إذا كان صمت الغرب في هذا السياق مفهومًا إلى حد ما، فماذا عن العرب والمسلمين في جميع أنحاء العالم؟ كيف تواطأوا بهذا الشكل الصارخ ضد قيمهم وأعرافهم وأخلاقهم ومعتقداتهم التي تحث على نصرة المظلومين ومقاومة الظالمين في كل زمان ومكان حتى يكفوا عن ظلمهم للناس؟ ما الذي حل بالقوم حتى يلوذوا بهذا الصمت الرهيب؟!

لا يوجد تفسير لهذا الحال المزري الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية، سوى أن الأمة قد أصيبت بالتبلد، وأن مشاهد القتل اليومي والدمار الهائل وقتلى الجوعى، قد أصابت القوم بنوع من الاعتياد على هذه المشاهد المروعة، وهو ما يجعلهم يشاهدونها يوميًا وكأنها مشاهد سينمائية أو خدع بصرية لا تمت للواقع بصلة.

إن هذا النقل المباشر للجريمة، بقدر ما يفترض فيه أنه يحمي الضحية، إلا أنه يعطل حاسة الاشمئزاز والرفض والإنكار للجريمة، فمن كثرة المشاهد المروعة تطبعت النفوس على التعايش معها، رغم كل ما فيها من وحشية وقسوة وإجرام يفوق التصور.

الجانب الآخر والأخطر في هذا الصمت العربي والإسلامي المطبق، هو حالة التطبيع المخزية مع توجهات الأنظمة الحاكمة تجاه ما يجري في غزة، والتعلل بأن كل حكومة لها ظروفها الخاصة وتقديراتها للأمر، مع أن هذه الحكومات لا تملك قرارًا خاصًا بها بقدر ما تنفذ كل ما يملى عليها من الغرب، وأن الشعوب المطبعة مع هذه الحكومات، لا يمكن أن تجد مبررًا أخلاقيًا أو سياسيًا أو أي مبرر آخر، يمكنه أن يعفيها من الغضب والمسؤولية الملقاة على عاتقها، سواء كانت أخلاقية أو إنسانية.

ليس من المبالغة القول اليوم إن ما يجري في غزة هو بمثابة خروج عن سياق التاريخ الإنساني بأكمله، فالتاريخ البشري مليء بالأحداث التي تحكمها سياقاتها الزمنية والمكانية المختلفة، لكن هذا التاريخ ربما لم يسجل سابقة مروعة كسابقة غزة اليوم، حيث تتم إبادة الأطفال والشيوخ والنساء الحوامل بالأسلحة الفتاكة والجوع القاتل والوحشية المفرطة، وأمام أعين الكاميرات وعدسات الهواتف.

لهذا كله، فإن الصمت اليوم لم يعد مقبولاً ولا معقولاً، وأن هذا الصمت هو سلاح الجريمة الأشد فتكًا من كل أسلحة الكيان الصهيوني، لما يمثله من مشاركة ورضا ضمني بما يجري من إبادة، فالجميع اليوم على امتداد الجغرافيا الإنسانية مسؤولون عما يجري لغزة وأهلها، ولا يوجد أي مبرر على الإطلاق لهذا الصمت تجاه كل هذا الإجرام، فإذا صمتت الحكومات، وهذا هو عهدنا بها، فكيف للشعوب أن تصمت؟ فالصمت لم يعد مجرد خيانة، وإنما هو جريمة مركبة في عالم اليوم المفتوح؟!

ندرك تمامًا أن الغرب أطلق العنان لكيان الاحتلال، وندرك أيضًا أن حكوماتنا العربية تقوم بواجبها المنوط بها من قبل الغرب، ولكن لا يمكن أن يسري ذلك على الشعوب الحية، التي لا تعرف الحسابات السياسية المعقدة، وإنما تستجيب لمشاعرها الصادقة والتحديات المحيطة بها، ولا يمكن تدجينها إلى هذا الحد من الذل والخضوع.

فما يجري يدعو إلى الحيرة والدهشة في آن واحد، خاصة وأن غزة ليست سوى خط الدفاع الأخير في وجه طوفان الإجرام الصهيوني والغربي المتصاعد، وأن إبادة غزة ليست سوى تجربة تحضيرية لما سيليها من عمليات إبادة جماعية لن تستثني أحدًا في حدود هذه المنطقة العربية المنكوبة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة